أصابع من جحود
نبيهة عمر
قصّة قصيرة
أصابعُ من جحود
هرولت نحو خزانة الثياب و في داخلها بركان يوشك أن ينفجر. في الرّواق اعترضتها صورة زواجهما معلقة على الجدار في إطار ذهبي، تلتمع تحت ضوء خافت. ألقت عليها نظرة عجلى فازدادت فورة الدّم في عروقها.
ستهجره اليوم حتما.. هذه آخر لحظات لها داخل هذه الحجرة البائسة، بألوانها الرمادية وستائرها الداكنة. هي لا تزال تذكر ذلك اليوم حين أخذها إلى محلات الأقمشة الحريريّة. طلب منها أن تختارستائر لعشّ الزوجية. تنقلت كفراشة بين فضاءات المحل، هذا بنفسجي، لون تحبه وهذه أقمشة بأزاهير تروقها وهذا مخمل باريسي، سيكون فخما يناسب روحها. تحيّرت ثم تخيّرت وبعد مرور وقت قرّ قرارها. هبّت إليه باسمة -عزيزي لقد اخترت، ٱنظرما أجملها ستارة! ستكون..
قاطعها بابتسامة ساخرة: - لا داعي أن تتعبي نفسك يا عزيزتي، لقد اشتريت الستائر ودفعت الثمن.
اصطبغ وجهها بلون الدّم. تخشّبت. لوهلة ظنّت أنّ الجميع ممّن كانوا يرقبون حركتها النشطة بين أروقة المحلّ تحوّلت ابتساماتهم المجاملة إلى خناجر طاعنة. واحتبس البكاء في مقلتيها. همّت أن تقول شيئا لكن الغصّة خنقتها. رافقته لباب السيارة في صمت الموتى. ما استطاعت ليلتها أن تنام كانت ترى في ما يرى النائم عرائس تتلاعب أمامها، تلبس ألوانها المفضلة ثم ترى يدا ذات مخالبَ تمتدّ إليها لتمزّقها إربا وتتعالى ضحكات مدوية فتستيقظ فزعة.
اليوم ..اليوم بلغ السّيل الزبى. لا فائدة من الكلام.. فتحت الخزانة وفي حركات جنونية لملمت ما لديها من ثياب ولملمت معها ما بقي من كرامة. فجأة، صارت الشقة التي شهدت بدايات حبّهما مقبرة حالكة السواد! وتداعت بها الذكريات ..
مازال صوت حماتها يرنّ في أذنها حين دخلت عليها غرفة الولادة بالمستشفى. قالت في صوت الظفر:- مبروك الولد يا حبيبتي! عرفت حقا ما تنجبين..مبارك عليك عبد الرحمان.. وتشظّى قلبها على حروف الاسم قطعة قطعة. لقد اتفقت معه قبل يومين على اسم "فراس" وها هو يسميه اسما آخر.
و ردّت على حماتها بابتسامة بلهاء.
في كل ركن من هذه الشقة لها خيبة وفي كل تفصيل من تفاصيل المكان دمعة..
لن تغفر له هذه المرة! عشرون عاما وهي تؤجّل أحلامها وتنسج من الترقّب رداء يستر وجعها..عشرون عاما وهو يأمر وهي تطيع واليوم جاء يعلمها بأنه سيغادر إلى بلاد بعيدة و أنّه لن يضيع الفرصة بعد أن تحقق حلمه في الهجرة أخيرا.
كلا! لن تسمح بهذا مجدّدا! ستتركه هي، لن تكون بعد اليوم دمية من قماش يحرك خيوطها بأصابع من جحود!
بقلم : نبيهة عمر من تونس
تمت القراءة 27 مرة
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!