عادت لها الحياة
نبيهة عمر
قصّة قصيرة
في الصباح الباكر وقبل أن يرنً المنبّه كعادته، استيقظت، تمطّطت تحت الدّثار. ثم قامت متثاقلة كأنّ جبلا يقبع بين كتفيها. دخلت المطبخ بعدما صلّت الصبح.
نظرت في الثلاجة تبتغي ما يمكن إعداده لفطور الصباح. لا يوجد الكثير ولكن الحمدلله على أنّ القليل موجود.. حمدا لله، فالكثيرات من جاراتها لا يملكن نصف ما تملك..تنهّدت وإذ بها ترتحل بعيدا..
قبل يومين، أخبرتها جارتها "هنية" أنها لم تنم ليلتها. كانت رضيعتها الجديدة تبكي طول الليل. لم تجد حليبا لتسكت جوعها و لم يعد صدرها يدرّ ما به تقيم أودها.
منذ أسبوع، رأت بأمّ عينها زوج جارتها وهو عائد من عمله. كان كيس البقالة قد وقع من يديه أرضا فتمزّق وانفرط كل ما فيه. لقد رأت -ولم تشأ ذلك- ما وقع من الكيس. ياله من مشهد مؤلم حقا! ليت الكيس لم يقع. لو أن عينها ما استرقت النظرة يومها لما أصبحت شاهدا على مأساة جارها ولما تجرّع هو مرارة الذل والهوان. بصلتان وقرنا فلفل وكسرة خبز لا غير..
يا رب! كان ذلك محصول يوم من العرق و القهر المحتبس بين الضلوع. واستعاذت من الشيطان جالب الأفكار والهواجس..
لتنظرْ في الثلاجة.. أخرجت بيضات و حقّة سمن بلدي و بصلا لتصنع لزوجها و أولادها حساء ، طعام زوجها المفضل..
توقّفت عيناها للحظة أمام إطار مذهّب. كان شهادة دُوّنت كلماتها بخط أنيق، مُنحت لزوجها عرفانا بجهوده ومثابرته في العمل. لم تكن تفهم من الكلمات شيئا كثيرا و لكنها اجتهدت وعلّقتها بعناية قبالة صورة زواجهما ..و بين الحين والحين كانت ترسل النظر بينهما كأنها تستمدّ منهما طاقة الكفاح
.••••
ثم رفعت بصرها إلى النافذة. كان بخار القدر قد ترسّب على الزجاج فرسم عليه خطوطا متعرّجة تنزّ ماء ..
لقد اقترب موعد عودة صغيرها، هو أكبر إخوته و أقربهم إلى قلبها وأوّل عهدها بالأمومة. ستسمع بعد قليل صوته رفقة ابن الجيران وهما عائدان من المدرسة يتذامران في شقاوة الصبيان ثم تعلو ضحكاتهما تعلنان نهاية الدعابة فينتهي معها خوفها من أن ينشب بينهما شجار يفلت عن السيطرة.
لكن، لأمر ما طال انتظارها ولم تسمع صوتا و لا ضحكا ولا حتى عراكا .."خيرا إن شاء الله خير!" هكذا تمتمت شفتاها وهي تسعى إلى بيت جارتها " هنيّة" تسألها عن قرّة عينها. قالت مرتعشة النبرات:- العوافي، هل فوّاز عندكم؟ فأجابتها جارتها: - كلّا.. لا تشغلي بالك يا أمّ الخير، لعلّه يلعب مع صبيان الحي.
ولكنّها لم تطمئنّ لما سمعت. كان قلبها يحدّثها بأنّ أمرا خطيرا قد حدث لصغيرها.
و ما عاد الصبر يسعفها.
دخلت حجرتها. التحفت و خرجت كالمجنونة حتّى أنّها لم تضع شيئا في رجلها. هرولت تريد مدرسة الحي. هي ليست بالبعيدة ولكن دروب الحي متعرّجة وكان عليها أن تمرّ بين شجيرات الحسك و التين البرّي و لم تكن الطريق ممهّدة. كان عليها أن تحذر .. ولكن لم تكن هذه المرّة تعير اهتماما لكل ما حولها من أخطار ..حسبها أن تجد حبيبها وقرّة عينها. يا الله! يا فالق الحبّ في الصخر! يا منقذ "يونس" من بطن الحوت! يا معيد "موسى" إلى أمّه و"يوسف" لأبيه ردّه إليّ!واختلط الدّمع الحارق بغبار الطريق فنغزتها عينها.دعستها بيدها ولم تبالي. إنّ حرقة قلبها كانت أشدّ وأقوى. وحثّت الخطى كأنّ قوة سحريّة تقودها لوجهة لا تعلمها أو ربما تعلمها ..
لابدّ ان تظفر به قبل أن يعود زوجها من عمله.. لا بأس.. المهم أن تعود به سالما إلى حضنها. لا بدّ أن يعود ! سيعود !
كان "فوّاز" أجمل ما وهبتها الحياة. فتى قوي البنية رغم نحوله الملفت وهو مع ذلك عنيد ولكن فيه طيبة رقراقة. كان هدية ربّها لها بعد طول صبر. وكأنّ الحياة راضتها أخيرا فأنجبته وهي في منتصف عقدها الرابع. ثم عمّ الخير بعده فرُزقت طفلين آخرين . هي لن تنسىى كم سمعت نساء الحي يثرثرن فينعتنها بالعقيم و بالأرض البوار .. هي لا تزال تذكر نظراتهنّ الماكرة المشفقة معا . ولكن الله كريم وشاء أن يرزقها بطفل جميل المحيا كالقمر، شفى غل صدرها وأسكتت به أفواه المثرثرات ..
أين أنت يا فواز؟ لقد أوشكت الشمس على المغيب. ما كنت لتفعلها متعمدا..آه!! سترى منّي وجه الحزم إن عصيت أوامري وجرّتك قدماك الفضوليتان إلى ذاك الجدار البغيض الذي نصبته آلة المحتل ليقسم وطنها إلى ضفّتين. لقد سمعت عنه كثيرا ولكنها لم تره بأمّ عينها. كلّ ما تعرفه أنه فرّق بين الأخ وأخته والزوج وأصهاره والبنت وذويها .. يقال إنّ كثيرين حاولوا عبوره وكثير منهم لقي حتفه والقليل من نجح في تجاوزه وإن فعل اقتنصته البنادق على بعد أمتار ..
و صعد الدّم إلى رأسها فصار كالبركان.. وغمغمت و تشابكت الأصوات والتأوّهات بداخلها بين وعيد ودعاء..ولكنّها لم تتوقف للحظة، تقودها قدماها و قلبها معا.
«فواز!! يا قطعة مني يا أنا ..يا كلّي..
يا حربة في صدر أعدائي.. يا سندي عند ضعفي. يا ريحة الشيح والزعتر يا وطني يا كل أحبابي ! »
•••••
و وضعت يدها على جبينها تتطلّع بعيدا . إنها تراه راكضا اليها إنّه هو. انّه حقيقة وليس سرابا.. و سرعان ما نسيت ما توعّدت به من ويل وثبور.
وارتمى في حضنها، في قلبها، إنها تشعر به في رحمها من جديد، فيمسح دمعة من عينها و تضمّه إليها تشمّه وتلفح وجهه بنفسها المحموم و تمطره بالقبلات.
ثم أكبّت تقبّل الأرض وتعفّر وجهها بترابها وتضرع إلى السماء شاكرة مهلّلة. حملته على عنقها غير آبهة بحصى الطريق وقد شقّ قدميها الحافيتين فاختلط الدم بالتراب.. لقد نسيت أن تنتعل كما نسيت ألمها. حسبها أنّ قلبها ينبض الآن. لقد تاه ولم يلبث أن أعاده الرب اليها.
و انتصبا شامخين كشجرة زيتون خضراء. استدارت بكامل جسدها إلى حيث الجدار، هناك غير بعيد. ثم ابتسمت وبرقت في عينيها نظرة قادحة. لقد عاد ولدها و عادت "أم فوّاز" إلى الحياة.
بقلم نبيهة عمر
تمت القراءة 25 مرة
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!