سعدى
نبيهة عمر
قصّة قصيرة
تمدّد على حصير متحجّر كأنه قلب سعدى!
هشّ بحركة لا إرادية ذبابة كانت تئزّ عند أذنه. لم يكن مباليا بالأحرى كان ضجرا، حساسا كفتيل قذيفة تهمّ بالانفجار. لم يكن العرق الذي تلبّد على جلده حتى غدا كالحاشية التي تمدد عليها ما أزعجه تلك الظهيرة. لم تكن تلك الذبابة اللعينة التي ربضت على كاحله، فرحة بالغنيمة التي أصابت وهي تلعق بخرطومها جلده المتخشب. تبا! يالهذا الخرطوم إنه أكثر صلابة وقسوة من قلبها!
لقد هجرته قبل سنين أربع. قالت وهي تتحسس جسدها المغتلم، إنها لا تجد ما تأكل في بيته وأنّ الحصيرة آذت ظهرها وأنّ كوخه الحقير بلا باب فاظطرت لإغلاقه بما يشبه الباب، كان قد اتخذه من جذوع النخل. لكنه أبدا لم يفلح في ردّ العيون المتطفلة عنها ...أخبرته يوما انّ أحدهم استرق النظر إليها وأنها سمعت فحيح أنفاسه وأن...الموت للخسيس! ما اخبثه! لو أنه أدركه تلك الليلة لهشّم رأسه الكريهة بحجر!
ما ازعجه تلك الليلة، كانت صورة سعدى و هي تتراقص أمام نظره وتسلّ اللحاف من على وجهه. كحورية من الجنة، كانت تعرض مفاتنها بلا حشمة ولا حياء. كانت صورتها لا تفارق صحوه ولا غفوته و تتخلل ثنايا دماغه فينتشي حدّ الثمالة!
لم تكن زوجة له، كانت خليلته لكنها جميلة! يذكر جيدا ذلك اليوم. كانت تستند ذراعها وفردة من نعلها وتفترش حصى الطريق تكوّرت تحت ظل عريشة نبتت كعفريت الجنّ، عظمت وتطاولت وألقت بفيئها على التلّ كله. على تخوم القرية وجدها، كأنه وجد معها ضالته..
لم يسألها حينها عن سبب انتحائها ذاك المكان المهجور الذي استوطنته الثعالب و السحالي و أوى إليه طواف الليل وقطاع الطرق. وإنما فتن على الفور بتضاريس جسدها. لا شك و أنها جميلة! وحسنها لا يمكن لرجل مثله أن يخطئه. توارت تحت ثوب يكشف أكثر ممّا يستر. كانت تتقلب كمارد من الجن. وكان يرقبها من بعيد. اقترب منها وقد استعرت في نفسه حمّى غريبة توقدت بداخله كنار من تحت رماد. همّ بايقاظها فانتفضت ..
سألها عن اسمها. صمتت.. ولكن صوت نبضها كاد يخرق أذنه. هدّأ روعها. مدً لها قربة الماء، شربت و مسحت فمها فبانت أسنانها.. فتية هي وفاتنة!
همّ بالذهاب فبكت وتمسكت بطرف جلبابه،صاحت، بكت واختلط نحيبها بلهاثه المسعور. توسّلت بالانبياء أن لا يتركها بذاك المكان. هي غريبة عن القرية بلا نسب ولاتعرف لها أبا ولا سندا قالت إنها ستكون له وحده..
لم يفكر طويلا، صدّقها وربما حنا عليها فأعانها على امتطاء الفرس وشقّ بها الخلاء..
غدت من فورها عشيرته. أشهد النجوم على ذلك. وما كانت هي لتهتمّ فقد كان رجلها. أغناها عن السؤال و معرّة الحاجة وربما لقيت فيه الأب والأخ والعائل. كان سخيا رغم الخصاصة ويؤثرها بالطعام والدثار ..بشكل ما علقها.. كانت وردة نبتت بين المزابل وكان هو صعلوك الفلاة.
ولكن الفقر كافر والبطن إذا صفّرت أذنت بالرحيل!
هجّت.. غادرت كوخه فجرا. حين أيقظه شعاع الشمس، فتح عينيه فلم يجدها بقربه. ظن أنها خرجت لبعض حاجتها ولكنها لم تعد ..تبا للفقر! وتعسا لحواء ! ما أشبهها بالأفعى فيها سمّ قاتل زعاف وفيها نصل شاف!
ذهبت وتركته كجلد الأجرب !!
أعزب يعاني الفقر والضجر!
خامرته الفكرة أن يهجر فرشته المتلبدة التي تفوح منها روائح الهزيمة ويبحث عنها ولكنه أحجم. كان شابا، سمرته الحالكة وشّحته بوسامة لافتة. و لاحقته النساء في كل أرض حل بها له سعدى ...و لكنه لا يذكر أنه خرج يوما طلبا لامرأة!
ماذا لو أنه اقتفى اثرها ذلك اليوم لكان أدركهاو لأعادها ما كانت لتستعصي. هو يعرف كيف يرضيها. إنها له وهو لها.. لم تكن له عاسقة. رأى ذلك في عينيها النجلاوين.. و لا هو أيضا ولكن جمعهما الضنك و الوحشة.. ظلتلك الليلة يسل بأصابعه سمار الحصير ويعبث بخيوطه وتكفّلت الهواجس ببقية عزمه فذوى .
ولم يخرج لطلبها أبدا.
بعيدا إلى قريته جمحت به الظنون، حيث أمّ العيال..
هجر هزّاع القرية منذ عشر سنوات. ترك فيها زوجا تكبره سنّا وولدا مقعدا و آخر رضيع. تركهم للجوع و رحل..
صاح فيها ذات ليلة: كفّي عن النحيب يا امرأه..من أين لي بالمال ..لا شغل ولا مشغلة بهذه الربوع ..ٱنظري حولك! لا شيء.. ستصبح هذه القرية عن قريب وكرا للمجاذيب وقطاع الطريق والممحونين والهاربين من القانون.. لك الله! دعيني وشاني!
دفعها فسقطت وعلا نشيجها ونشيج ذلك المقعد ..
ثم غاب في الظلام. تسلل كالخيبة!
وظلت لعنة زوجته تلاحقه، ما نزل بأرض إلا لفظته. حتى السماء انهالت عليه بوابل محموم من سوء الحظ و نكد الحياه!
وحين ظفر بسعدى, ظن أن اللعنة فارقته و ابتسمت له الحياة. وابتسم...
نهض متيبّس الظهر، أراق على وجهه المكدر ماء، أشعل النار في الكوخ، سرّح العنزة وانطلق، لا يدري أين يمضي. أرض الله واسعه و له في كل مكان منها سعدى.
تمت القراءة 26 مرة
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!