ميار

نبيهة عمر
خاطرة
هذا النص كتبته إهداءً لروح ابنة صديقتي الغالية نهلة الذهبية من سورية الشقيقة ، وهي امّ رائعة وشاعرة مُجيدة كرّست قلمها لرثاء ابنتها التي رحلت في عمر الزهور وكانت مثالا وقدوة لكل فتاة عربية، تعلّمت من هذه السيدة قيمة الصّبر وكيف يكون الإنسان راقيا في حزنه.          (ستحيا ميارُ مادامَ بِدمِ العروبةِ شيءٌ من ميار) بقلم  :  نبيهة عمر من تونس الخضراء التَقَيْتُها ذاتَ مساءٍ، كُنْتُ حينَها أمارِسُ رياضتي المسائِيَّةَ المُفَضَّلةَ، أمشي بيْنَ دروبٍ مُتعرِّجَةٍ في الحيِّ السكنِيِّ المُتْرَفِ الّذي أقْطُنُهُ بمدينةِ أكرا  عاصمةِ غانا. كانتِ البيوتُ فَخْمَةً أنيقَةً من دونِ ابتِذالٍ أو مُباهاةٍ، لا تشُدُّكَ الجُدْرانُ أو الأبوابُ بِقَدَرِ ما تسترْعي انْتِباهَكَ الأشْجارُ الأفريقيَّةُ الّتي تُعانِقُ الفَضاءَ في خُيَلاءٍ، مُتَنَوِّعةً مُتَلَوِّنَةً تَخْتَزِنُ داخِلَ أغْصانِها المُتَشابِكَةِ كُلَّ أجْواءِ أفريقيا الاسْتِثْنائِيَّة. كانتْ نَسَماتُ المَساءِ مُعَبّأَةً بالرُّطوبَةِ الشديدَةِ الّتي تُكَدِّرُ عليَّ لَحَظاتِ التّأمُّلِ القليلَةَ الّتي يُمْكِنْ أن أحْظى بِها داخِلَ هذا المكانِ المَفْتوحِ المُغْلَقِ في نفْس الوَقْتِ. لاقَيْتُها نازلةً مِنْ سَيّارَتِها، التقت العُيونُ مباشرةً، ما شَدّنا إلى بَعْضٍ في تِلْكَ اللّحْظَة بشرتُنا الفاتِحَةُ اللّوْنِ- مُعْلِنَةً في سُفورٍ واضِحٍ جِنْسِيَّتَنا  الأجْنَبِيَّةَ وأنّنا غريبَتَانِ عن هذا المَكانِ. لكِنَّ النَّظرَةَ لم تَكُنْ كافِيَةً لِتَرْبِطَ صَداقَةً مَتينَةً في ما بعدُ... كانتِ الكَلِمَةُ هيَ ما جَمَعَ شَمْلَ صَداقَتِنا. أصْغَيْتُ إلَيْها تتكَلَّمُ بِلُغَةٍ مَشْرِقِيَّةٍ جَميلَةٍ، " سورِيَّةٌ أمْ لُبْنانِيَّةٌ"؟ هذا ما اعترى خاطِري في تِلْكَ اللّحْظةِ.. كأنَّني لَمْ أكُنْ مَشْغولَةً في هذا العالَمِ إلّا بِالبَحْثِ عن روابِطِ العُروبَةِ وما أكْثَرَها في رُبوعِ أفريقيا الّتي احْتَضَنَتْ بِكُلِّ سَخاءٍ شَمْلَ شُعوبِ البِلادِ العَرَبِيَّةِ الّتي أضْناها السّفَرُ والتَّشَريدِ...كُنْتُ أنا المُبادِرةَ بالتَّحِيَّةِ، حَيَّيْتُها بِلِسانٍ عربيٍّ، حاوَلْتُ فيه أن أُحاكيَ لهْجَتَها السّورِيّةَ، رَفَعَت فِيَّ عيْنَيْنِ لَعَلّي رأيْتُ لِلْوَهْلَةِ الأولى، ولا أعلَمُ لماذا، حُزْناً عميقاً يسْكُنُ بيْنَ الأهدابِ.  قالت مساء الخير، كيفك؟ يا مرحبا، عَرَبِيّة؟. قُلْتُ تونسية ابْتَسَمَتْ، فَتَحَتْ مجالاً لَطالَما انْتَظَرْتُهُ في بلادِ الغُرْبَةِ للتّواصُلِ، للتَعايُشِ، لِتبادُلِ الأفْكارِ والأحزانِ. وبِسُرعَةٍ لا تَجِدُها إلّا لَدى أشِقّائنا السّوريّينَ، دعَتْني إلى فنجانِ قَهِوَةٍ عُرْبوناً لِرَغْبَةٍ حقيقِيَّةٍ في تَواصُلِ العلاقَةِ. لمْ أستَغْرِبْ حينَها هذا القَدْرَ الكبيرَ مِنْ رحابَةِ الصّدْرِ وهذا الكَمَّ الهائِلَ مِنَ الوُضوحِ. ليْسَ لدى هذِه المرْأةِ مَجالٌ مِنْ تَصَنُّعٍ ولا لِلْبروتوكولاتِ الّتي تُلْقي عادَةً أجْواءَ مِنَ التَّكَلُّفِ على العَلاقاتِ الإنْسانِيَّةِ. كانَتْ شَفّافَةً كشفافِيَّةِ عَيْنَيْها الخُضراوَيْنِ.  أذْكُرُ أنّي اعْتَذَرْتُ يَوْمَها عن فنجان القهوَةِ ولكِنّي وَعَدْتُ بِزِيارَةٍ كُنْتُ أحْتاجُها...كمْ كانَ بي حنينٌ إلى فنْجان قَهْوَةٍ عَرَبِيَّةٍ منْ يدِ سَيِّدَةٍ سورِيَّةٍ كُلُّ مَلامِحِها تَشي بِأنَّها سَيِّدَةٌ أصيلَةٌ تَخْتَزِنُ وراءَ ثَوْبِها الدّاكِنِ كُلَّ معالِمِ الهَوِيَّةِ العرَبِيّةِ بِلا جِدالٍ. وجاءَتِ الزّيارَةُ الأولى وَداخِلَ بَيْتِها الأنيقِ الّذي يُعْلِنُ بَصْمَةً عرَبِيّةً دِمَشْقِيّةً تَعْبِقُ داخِلَ المَكانِ وتخْتَرِقُ أفْريقيا بِعُنْوَةٍ وَكِبْرِياءٍ. أيُّ بابٍ؟ أيُّ ميعادٍ حَمَلَني إلى عالَمِها؟! دَعَتْني إلى وُلوجِهِ، أزاحَتِ السِّتارةَ عنْ طلاسِمهُ، لمْ تَكُنْ مُتَحَرِّجَةً مِنَ الحَديثِ عَنْ سَبَبِ الحُزْنِ الّذي يُلازِمُها، قالت، أسْهَبَتْ، أطْنَبَتْ، سَرَدَتْ تَفاصيلَ حِكايَتِها...لمْ أدْرِ حينَها ما السِّرُّ الّذي دفَعَها لِتُلْقِيَ إلَيَّ بِكُلّ هُمومِها دَفْعَةً واحِدَةً، هُمومٌ دَفَعَتْني إلى البُكاءِ.  قاسَمْتُها دَمْعَتَها، شارَكْتُها قَهْوَتَها فكَيْفَ لا!! كيْفَ لِإنْسانٍ أنْ يَكْبَحَ جَماحَ دُموعِهِ وهويُصغي لِقِصَّةٍ مُماثِلَةٍ؟! قِصَّةِ نِضالٍ ضِدَّ المَوْتِ، ضِدَّ الفَقْد، ضِدَّ الرَّحيلِ، ضِدَّ القَدَرِ..... يا لَهوْلِ مُصيبَتِها!!! أُمٌّ مَكلومَةٌ فقَدَتْ وَحيدَتَها وتَوْأَمَ روحِها وسَبَبَ وُجودِها. فرَّقَ بيْنَهُما السَّفَرُ طَويلاً وَخَتَمَ المَوْتُ مَلْحَمَةَ الغِيابِ. فَتَحَتْ هاتِفَها الجوّالَ، لاحَظْتُ ارتِعاشَةَ أنامِلِها الرّقيقةِ، ماذا تَصْنَعُ بِالهاتِفِ الآن ؟! لا يَنْقُصُنا إلّا تَصَفُّحَ دَرْدَشَةٍ فيسبوكِيَّةٍ! لا لمْ تَكُنْ كذلك. كانت كَلِماتٍ مُنَمَّقَةً عَرَبِيَّةً فَصيحَةً.. انبَهَرتُ لِما فيها مِنْ بَلاغَةٍ وفَصاحَةٍ. لم أتوقع أنّ وراءَ هذه المرأةِ المسْكونَةِ بالحُزن كُلَّ هذه الشّاعِرِيّةِ الدّفّاقَةِ وكُلَّ هذا الوَعْيَ بِخصائصِ الشِّعْرِ ودَقائِقِهِ مِنْ صورَةٍ ولَفْظٍ وَإيقاعٍ. ما كُنْتُ أسْتَمِعُ إلَيْهِ كان شِعْرَ رِثاءٍ. كانتْ تَرْثي ابنَتَها كأجْمَلِ ما يكونُ الرِّثاءُ. كان قلَمُها مِغزاراً سَخِيّاً كَسَخاء روحِها ويَدِها جواداً كجودِ عَيْنَيْها. سليلةُ الخنساءِ هِيَ، كم تَشابهتا!! منْ قالَ أنَّ الشِّعْرَ لُغَةُ الرّجالِ فقطْ؟ الشِّعْرُ لُغَةُ الأرواحِ الشّفّافةِ وتُرْجُمانُ العواطفِ الصّادِقةِ آهٍ كمْ كانتْ صادِقَةً في عواطِفِها! الصِّدْقُ كانَ شِعارَها، لا شيءَ كانَ يَحْمِلُها على التَكَلُّفِ والكَذِبِ. لقدْ غَيَّرَتْ مَقولاتِ العَرَبِ  " أصْبَحَ أجْملُ الشِّعرِ معها أصْدَقَهُ". كلِمَتُها تَحْرِقُ الرّوحَ وتلْفَحُ الأنْفاسَ، حَرَّةٌ حرَّ الجّمرِ. خيالُها مزيجٌ مِنَ الواقِعِ والأحلامِ، يتولَّدُ  المعنى معها ولادَةً قْيصَرِيّةً، فلا مَخاض ولا تَعَسُّر، تنْصاعُ الكلِمَةُ إليها انصياعاً فتَقْتادُها اقْتِياداً... كانت سيِّدَةُ تِلِكَ اللّحْظَةِ. ساد جوٌّ مِنَ الصّمْتِ، ما كُنْتُ قادرةً على منعِ عيْنَيّ من أن تذْرِفً الدّموعَ. رأيْتُ فيها أمّي، رأيْتُ فيها نفسي، ورأيتُ في ابْنَتِها ابْنَتي. تعانَقَتْ الأرواحُ. ما عادَتْ فاجِعَتُها تخُصُّها لِوحدها، كان الوجعُ مُشْتَرَكاً. نحن العربُ نعيشُ الفاجِعَة يوْمِيًّا. يُوَحِّدُنا الموْتُ أكْثَرَ ما تجمعُنا كلُّ قواسمِ العروبة. يجمعُنا الموتُ وتُفَرِّقنا الحياةُ أيَّتُها العاتِيَةُ الآتِيَةُ من هُناك... انْبَلِجي انْشَقّي يالِهذِهِ الصّورَةِ!! يالِهذا الصّمودِ!!!يا لِهذِه الصّلابَةِ!!! جبلٌ شامِخٌ لا يَهُزُّهُ المَوْتُ وإنْ ضرَّجَ الرّوحَ بِلَوْنِ الدّمِ ولوْنِ السّوادِ. عَرَضَتْ عليَّ  أشعارَها، قَرَأْناها معاً، ومعَ كُلِّ كَلِمَةٍ كُنْتُ أُصْغي إلَيْها كُنْتُ أزْدادُ اكتِشافاً لِهذه المرأة. امرأَةٌ ولاكُلِّ النِّساءِ، تتحدَّثُ عن موْتِ ابْنَتَها وكأنّها تَصِفُ عُرْسَها. من أيْنً لها كُلَّ هذهِ القُوَّةِ؟!! أهُوَ الموْتُ الّذي علَّمها أنَّ في الحياةِ ما يسْتَحِقُّ الحياةْ؟ قالتْ أنّ قلَمَها مُقَصِّرٌ عنْ أداءِ معاني ابْنَتِها وجوْهَرِها، جوْهَرُ ابْنَتِها نورٌ وضِياءٌ، لم تُخْلَقْ هِيَ منْ حمإٍ مَسْنونٍ، ولم يَكُنْ جَسَدُها أهلاً لِلْقُبورِ. جديرَةٌ هِيَ بِعالَمِ الملائِكَةِ والقِدّيسين والعُظَماءِ. رُبّما يُراوِدُكُم الآن خاطِرٌ راوَدَني لِلْوَهْلَةِ الأولى، أليْسَ هذا ضرباً من ضُروبِ المُبالَغَةِ التي تستهوي العربَ عِشْقَهُم للشِعرِ والأساطيرِ؟ لا! ليْسَ في قَوْلِها شيءٌ منَ التّهويلِ أو المُبالَغَةِ. كانتْ ميارُ فتاةً سورِيّةً رمزاً لِلْمرأةِ العربِيَّةِ الّتي تتمنّى أن ترى على شاكِلَتِها كُلَّ النِّساءِ. كانت حقّاً،  أُمْثولَةً لِلمُثابرةِ والنّبوغِ،شامِلَةً كامِلَةً، قلْباً وقالِباً. سُبْحانَ  الخالِقِ الذي وهبها كُلَّ هذا الكمالِ! ميارُ لاتشُدُّكَ بجمالها الصّارِخِ فحسْبْ، فالجمالُ قد تُقاسِمُها فيه كثيراتٌ منَ الحِسانِ، ولكِنّها دُرّةٌ فريدَةٌ في مجالِ العقْلِ والإدراكِ والوعيِ. كانَ القانونُ الدَّوْلِيُّ مجالَ دراسَتِها  الأكّاديميّةِ دليلاً على صلابةِ عودِها وشُموخِ نفْسِها وعن بُرعمةِ النّضالِ والصُمود فيها. كانت مسكونةً بهاجس الوطن سورية، الوطنُ الّذي عبثَتْ بهِ الطّموحاتُ والمؤامراتُ والخِياناتُ وتَنازَعَتْه الطوائفًُ والمذاهِبُ، ورقصتْ على جُثَثِهِ جحافِلُ الضِّباعِ من المُرْتزِقَة والمُتاجِرين بالهويَّةِ والدّين.  لمْ تكُنْ مَيارُ إلّا صوْتاً منْ أصواتِ النِّضالِ، صوْتٌ أعلنَ الحرْبَ ضِدَّ كُلِّ من تاجرَ بدِمشْقَ وحلَبَ وحمصَ وإدلِبَ، رفعتْ سِلاحَ القانونِ تُريدُ أن تجُزَّ الأعدا ءَ بسيْفِ الحقِّ والمنْطِقِ.ولمّا اشتدَّ عودُها وسطعَ نجْمُها وصارت مُتَمَرِّسَةً بآلِيّاتِ المهنَةِ، داهَمَها الموتُ فجأةً، حطَّمَ كلّ الأحلامِ. هل تُراهُ الموْتُ هو الآخرُ مُتآمِرٌ، خائن، غادر؟ هل رأى فيها ما رأيْتُه أنا ومارأتُه أمُّها وما رآه فيها كلُّ  أساتِذَةِ جامعات الدّوَلِ العُظمى التي احتضنتها وتكفّلت بمصاريفِ دراستِها وبشّرتْ بميلادِ نَجْمٍ جديد في عالم القانونِ.... هل رأى فيها شُعْلَةَ نورٍ ستُبَدِّدَ الظلامَ؟ هل رأى فيها مِطرَقَةَ العَدْل ستدقُّ أعناق الخَوَنةِ وسماسِرَةَ الأوطانِ؟ فبادرَها بالطَّعْنَةِ العَجْلى.. فليَكُنْ ما يكُنْ...مُؤمِنَةٌ أمُّها بأنَّ الموتَ حقٌّ ، وأن لامفَرّ. الموتُ هو الصورةُ الأسمى للعدْلِ بيْن البشر..عدْلٌ نَعيهِ ولا نستوعبُهُ، عدْلٌ نستَبْطِنُهُ ولكن لا نسْتسيغُهُ. كفى حُزناً سيِّدتي، فابنتُكِ سليلةُ المَجْدِ والمَجْدُ لايُثْنيهِ الموْتُ ولا تحْجُبُهُ ظُلْمَةُ القبْرِ. ستَحْيا ميارُ مادامَ بدمِ العروبةِ شيءٌ منْ ميارِ.
تمت القراءة 57 مرة

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!