نسيت أن تحيا
نبيهة عمر
خاطرة
عاشتْ ونسيتْ أن تحيا...
حين بلغتْ العشرين لم تُعِرْ لذلك الحدث اهتماما. كان يوما كغيره من الأيام لا يحمِل شيئا في طياته. كانت في ريعان الشباب لا تُضيرها نوائب الحياة وصروفُها، كأنّ الزمان لا يعنيها. عصِيّة هي عنه. كانت يومها تنعَم بالصحة وترفُل في حُلل الجمال ؛ خالَتهما تاجين خالدين . هكذا هو الشباب.. يمرّ كغمامة صيف خُلّبٍ، يعِدنا بالأبدية والديمومة.
وحين قرع العقد الثالث أبوابها، اخترقتها حيرة كالحة مليئة بالكدر والقلق...للثلاثين نكهةٌ خاصة عند النساء.. تبلغ المرأة معها أوج النضج وتصل ذروة الجمال والاكتمال.ولكنها تدفع خلالها تكلفةً باهضة، تدفعها يوما بعد يوم لحظة بلحظة من رصيد صحتها وجمالها. تقف عاجزة أمام طائلة الزمن تراه وهو يلتهم جسدها كسبُع ضارٍ بلا رحمة ولا هوادة . ربما يُسمع لها أنين وربما شوهدت دمعةٌ بمقلتيها. ولكن أبدأ لن يدرك أحدٌ ما حلّ بروحها.. تهَب الواحدة منا شبابَها طائعةً، راضية وتحسِب ذلك واجبا عليها. حسبُها حينها أن تسمع ضحكات أبنائها من حولها وهم يمرحون و يضجّون. وتراهم يكبرون يوما بعد يوم... وتكبُر هي معهم .الفرق بينها وبينهم، أنهم يسيرون في نسق تصاعدي أما هي فتهوي باتجاه القاع. نزولا تهرول بنا الأيام وتبطش بوجوهنا وأجسادنا وتخبط بأحلامنا خبط عشواء، وتترك آثارها غائرة فينا كالأخاديد.
وعندما تئزُّ صافرة الأربعين، تتوقف الحياة.. فجأة! كلّ ما فيها يرتدّ إلى الوراء فقط عقارب الساعة تواصل اكتساحها الهمجيّ لمجالها الحيويّ. يومها، تصبح المرآة عدوّها اللّدود، إنها الشاهد الصّدوق الذي يجهَر بكل ما أوتي من فضاضة وغلظة وسفور بفعل الزمن فيها.
وقبل أن تغرق في بحر من الأسى، تسارع بالتشبث بطوق النجاة . تنظر إلى الشجرة التي غرستها بيديها وسقتها بدموعها وتعاهدتها بليالي طويلة من السهر والسهاد.. تلك الشجرة وهي تطرح ثمارَها تبقي الأمل بداخلها حيّا لا يهمَد. لم تعد اليوم حياتُها تعنيها بقدر ما تعنيها حياة أبنائها. هم خلاصة عمرها صنيع يدها. كيف سيكون عالمهم؟ كيف سترتسم آمالهم؟ همّها أن تزيح كلّ العقبات عن دروبهم حتى وإن أدمى الشوك أناملها وتعفّرت بالألم روحها. تلوذ إلى عالمهم بعدما أصبح عالمها باردا شاحبا ..تتوارى خلف صورهم الفتيّة، علّها توقف قطار العمر وهو يجري بسرعة هوجاء نحو المحطة الأخيرة محطة الاّعودة .
متى تبلغْ الأربعين، تذكّرْ أنّك ربّما صادفت يوما امرأة كانت تجد سعادتها في أن ترى مَنْ حولها سعداء..فلا تكن قاسيا في حُكمك عليها. حسبُها أنها استفاقت في أواخر العمر لتكتشف أنها عاشت..ولكنّها نسيت أن تحيا..
تمت القراءة 8 مرة
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!