المساء في أكرا
نبيهة عمر
خاطرة
من وحي لحظات الإعداد للسفر، لحظات تجلّ أتقاسمها معكم..
هذا المساءُ لم يكُن كغيره من الأمْسياتِِ . المساءُ بغانا مختلفٌ عن كلّ مساءٍ. هو تآلفُ عجيبّ بين دفءٍ ينقلب أحيانا لهجير لافحٍ و رطوبةٍ عاليةٍ يكاد ينفطِر لها القلب، وحين يهًبّ النّسيمً، يتراءى أمام عيْنيكَ عَبقُ التاريخ وتجتاحُك لحظاتُ تأمّلٍ وحنين مُضْنية.
أوصدتُ البابَ بلطفٍ دون أن ألتفت للوراء، لا أذكُر أنّي أعلمتُ أحدا من أفراد عائلتي بأنّي مغادرة. قادتني قدماي لدُروبٍ ألفتُها وألفتْني. كان المنظرُ آسٍرا بالحيّ الذي تسوّغناه طيلة مدّة إقامتِنا بهذا البلد، تكاد تنقطٍع له الأنفاسُ... الأشجارُ الباسقة الشامخةُ التي تمتدّ على مدى الأرصفةِ المنتظمةِ بأناقةٍ عاليةٍ، تعانقُ الفضاءَ بسفورٍ مهيبٍ و تختزن في جذورها الضخمةِ كلََّ أسرار الزمن الغابرِ، زمنِ طرُق الحرير والعبيدِ المجتثّين من ربوعهم. كانت ببساطةٍ جميلةً، تكسوها أزاهيرُ لم أرَ لها مثيلا من قبل، تتشابك في الفضاء وتتعاضد في خٍيلاءٍ . كان المكانُ مرشّحا ليكون مَرْسحا لأجملِ أقاصيص العشق و الانتشاء، إلا أنّني كنتُ أمثّل فيه نقطةَ النّشاز الوحيدةَ. شعور مَقيت من الانقباض يجتاحُني برُعونةٍ هوجاءَ. لم أكُن على سَجيّتي هذا المساء، كان مزاجي عكِرًا، غادرَتني ابتسامتي المعهودةُ ، حتى أنّني صادفتُ بعضَ الأجوارِ الذين اعتدتُ رؤيتَهم كلَّ مساءٍ في نزهتي المعتادة ولم أعِر لهم أدنى انتباه. ولم أرُدَّ التحيةَ التي ألقاها علي مارٌّ تقاطعت عينايَ مع عينيهِ لمحةً فحيّاني بأدبٍ بلغة إنجليزية مُصطبغةٍ بلكْنة إفريقية أصيلة، ربّما كان الشعورُ بالاختناق قد كبح صوتي فوُئدتْ الحروفُ داخلي، ربّما كان إحساسًا عميقا بالانبتات عن المكان، معفّرًا بشعور غريب من الإعياء، شعورٌ يراودني كّلما أزمَعتُ الرحيلَ، رحيلٌ مقدّرٌ ، ليس لي فيه رغْبة ولا خيارٌ...
تمت القراءة 19 مرة
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!