مهنة التجرد

نبيهة عمر
خاطرة
إلى مُدرّس حديثِ عهد بالتدريس   سأحدّثك عن المعلّم، المربّي. فصبرَا جميلاَ. سأتحدّث من زاويتي الخاصة بعدما أمضيت في هذه المهنة ما يناهز العقدين.  حين تنزع عنك معطفك خارجا و ترتدي الميدعة البيضاء فأنت تتجرّد من ذات وتحلً بأخرى بمجرد أن تخطوَ عتبة قاعة الدّرس. ستنسلخ عن ذاتك الأصليّة، زوجا كنت أو أبا أو أمّا... وتصير معلّما ومربّيا. ستتجرّد من مشاغلك اليوميّة، من اهتماماتك الشخصيّة، من كلّ همومك الروتينية، بسيطة كانت أو معقدة. تتجرّد من جميع احتياجاتك حتى أشدِّها حميميّة. تتجرّد من كل روابطك الاجتماعية من كلً أدوارك الحياتية. لن تظلً هناك أولوية لأي شخص في ذهنك مهما كان عزيزا عليك. أنت الآن في حضرة المهمّة الأسمى والأنبل والأكثر قداسة. أنت والتلميذ وجها لوجه. التلميذ ليس ملاكا على الإطلاق! ومن منّا..؟! التلميذ لا يهمًه إن كنت سعيدا أو تعيسا مرتاحا أو مرهقا، نمت جيدا ليلتك الماضية أو لا...عليك أن تعيد برمجة دماغك. أنت الآن تحت المجهر. عيون كثيرة ترنو إليك. تحدّق  بك في فضول رهيب. عقول متعطشة للمعرفة وأخرى ضجرة متذمًرة. ستعدًل مزاجك حسب أمزجتهم، ستفرح لفرحهم وتألم لألمهم ستحبط لإحباطهم وتنتشي بنجاحاتهم. طباعهم المختلفة والفوارق بينهم ستدهشك. عليك أن تكتشف كل ذلك يوما بيوم وتتعامل مع كل هذا التباين العجيب بمرونة وذكاء. ستكابد من أجل إيصال المعلومة. قد تنجح وقد تخطئ . ستكون تحت المجهر ساعة بساعة، دقيقة بدقيقة بعض التلاميذ سينصفونك في أحكامهم والآخرون سيتجنون عليك. فلا تحزنْ! بعضهم سيقدّر كفاءتك وبراعتك و اجتهادك وكثير منهم سينشغلون بتقييم شكلك ومظهرك  فلا تبالِ! سيتفحصونك مليّا. ستكون كلّ يوم تحت طائلة انتقاداتهم وثرثراتهم ودعاباتهم وحتى وقاحاتهم. إيّاك أن تحمل كل هذه الإحباطات إلى بيتك، حينها ستكون الطامّة الكبرى. فلتتجرّدْ من جديد!  أعد برمجتك الذاتية الى النقطة الصفر فأمامك تحدّيات جديدة تنتظرك... وثق أنّك لن تفلح على الوجه الأكمل في ذلك مهما حاولت فواجبات التدريس ستلاحقك في بيتك. ستعود بمحفظة مليئة بالفروض والواجبات التي ستتراقص أمام عينيك حتى في أحلامك....    وبمرور سنوات في ميدان التدريس ستتعلم أن تتجرّد في نهاية المطاف من كل ما كان يميّزك. ستتجرّد داخل مدارج الدراسة من حساسيتك وضعفك، ستتجرّد من انفعالاتك المفرطة وحتى هواياتك ستتعلم كيف تبتسم بمقدار وكيف تعبس بمقدار كيف تتجاهل ببرود..جزء كبير منك سيهمد وينطفئ... قناعاتك ستتشكّل من جديد مع جيل جديد من التلاميذ، جيل يحمل أفكارا جديدة وقيما جديدة، اهتماماته مختلفة وقدواته مختلفة وحتى مفهومه للموضة وللفن وللعلم متجدًد متحوًل. و عليك أنت أن تتعايش مع هذه الديناميكية الصعبة وتواكب كلّ هذا  لتجد نفسك ذات يوم غريبا عن عالمك الأصلي وعن كيانك الحقيقيّ.  ما أشق مهنة التدريس! إنّها حقا مهنة التجرّد . هل تجيد أنت التجرًد؟   هذا هو المعلّم يا سادة!!!! شيء واحد سينسيه كلّ هذا العناء.. ليس هوالشكر ولا الترقية ولا المديح...إنها ابتسامة صادقة ترتسم على وجه تلميذ تصادفه في الطريق بعد سنة أو سنوات..  
تمت القراءة 17 مرة

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!